الثلاثاء، 5 سبتمبر 2017

مشاعر حاج

🔸               *مشاعر حاج*        🔸

*بقلم 🖋 / علي بن محمد الثوابي*

بفضل محض من الله جل جلاله ، ومن غير قوة مني ولا حول، فقد تهيأ لي حج الفريضة هذا العام ، فلله أعظم الحمد والمنة ما جَرَت أنفاسُ العمر ، وما تحركت بالحياة نبضات الفؤاد.

كنتُ قد سمعت كثيرًا من كثيرٍ من حجاج بيت الله الحرام عن شعورٍ يجدونه في جنبات المشاعر والرحاب الطاهرة ، كانوا يصفون ويُبالغون في وصف ذلك الشعور ، ولكن ليس الخبر كالمعاينة أو المعايشة ، فمهما كان الوصف مُفصّلًا بليغًا،فلن يتأتّى له أن يُدخلك في محيط شعورهم ما لم تخُض التجربة بنفسك - في الحج أو غيره -.

رحلة الحج رحلة عجيبة ، لا لما فيها من عبادات جديدة تؤدى للوهلة الأولى لحاج الفريضة كالوقوف بعرفة والمبيت بمنى ومزدلفة وجمع الحصى ورمي الجمار والتلبية والهدي، وإنما للإحساس بالشعور الذي كنت قد سمعته، وها أنا اليوم قد عشته.

الحج هو العبادة التي يستشعر فيها المسلم حقًا أنه قريبٌ قريبٌ جدًا من الله جل في علاه ، وهذا لا ينفي القرب من الله في بقية العبادات وأهمها الصلاة ، وإنما شعورٌ استثنائي يأخذك لاسيما في يوم عرفة ربما لم تجده من قبل ، وهو أنك تقف في أقرب مكان من الله سبحانه ، تستشعر بكل جوارحك دنوّ الله الخالق العلي في عشية عرفة من عباده ، وتستشعر مباهاته سبحانه بالحجاج ملائكته ، وتتذكر بقلبٍ يتقلب بين الخوف من عدم القبول والطمع في المغفرة قوله جل جلاله :
{أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم}.

تدعو في عشية عرفة بلسانك فيأبى قلبك وعقلك وكل جوارحك إلا أن تشارك لسانك في الدعاء ، وكأنك تدعو للوهلة الأولى استشعارًا للحديث : ( وخير الدعاء دعاء يوم عرفة).

يمر بخيالك وأنت تتنقل بين المشاعر مؤديًا لأنساكك مشهد أنبياء الله ورسله الذين تنقلوا قبلك بين هذه الأماكن مُلبّين ومكبّرين وطائفين ببيت الله العتيق ، آخرهم سيدهم محمد ﷺ وصحابته العظماء رضي الله عنهم أجمعين، فتشعر بعِظم العبادة ،وتستشعر فضل المكان والزمان ، وتدرك أن وجودك في هذه الرحاب المقدسة إنما هو اصطفاء وفضلٌ مَنّ الله به عليك أنْ مشيت حيثُ مشى صفوة الخلق عليهم الصلاة والسلام ، وفعلت فعلهم :
مبيتًا ووقوفًا ورميًا وتلبيةً وتكبيرًا وطوافًا وسعيا.

تقف متأملًا بين تلك الحشود من المسلمين فتتذكر أن الذي أتى بهم من كل أصقاع الأرض هو أذان الخليل إبراهيم ﷺ ، فأتوا ملبين هذا النداء الذي أكده سيد الأنبياء والرسل محمد ﷺ .

عبادة الحج عيادةُ استشفاء من كل أدران النفس ،وأوهام الشيطان، وطبائع السوء ، وسيء الأخلاق ، وبذيء الكلمات!

في الحج تغتسل الأرواح من كل أوساخ الدنيا وزخارف الحياة ،وترتوي من معين القرآن والذكر والطاعة ، لتصل النفوس في نهاية الحج إلى مرحلة لا تكاد تشبع أو ترتوي من كلام الله وطاعته وذكره.

ما أعظم الحج من مدرسة أخلاقية تربوية ، تلتفت يمينًا ويسارًا فلا تجد إلا من يبتسم في وجهك من الحجاج ، أو يبادر في تقديم ما يحاول به أن يُدخل عليك السرور ويسعدك.

وجوه الحجاج لا تقبل العبوس ، ولا للتقطيب مكانٌ على أجبُنهم ، ولا تستسيغ ألسنتهم وقبلها قلوبهم كلماتُ البذاءة والفحش والفسوق والجدال والغيبة ، ولا تسمعُ في الحج إلا ما يقرب إلى الله ، وترى أخلاق المسلم على أفضل ما تكون :

إلقاء التحية على من عرف ومن لم يعرف وردِّها يعطر المكان ..

تشميت العاطس يستحيل أن يُهجر..

كفُّ الأذى وبذل المعروف متبادلٌ بين الحجاج..

كلهم يستشعرون أنه لا فوارق بينهم ولا حواجز ولا امتيازات ولا اعتبارات ولا تفاضل إلا بالطاعة ، يتحدون لباسًا وشعورًا وعبيدًا لله.

العفو عن الخطأ والتسامح واللين هو شعارهم..

يتفسحون في مجالسهم ، يؤثر بعضهم بعضًا بكل شيء ، من يراهم ويلحظ تعاملهم مع بعضهم يظن أن أعوام الصداقة والمعرفة قد امتدت بهم كثيرا، وهم إنما اجتمعوا من أقطار الدنيا ومن كل فج عميق في هذه الأماكن وفي أيام محددة ، يلتقون فيها للمرة الأولى ، وفي الغالب أن لقاءهم هذا وداع لا لقاء بعده.

يحتسبون كل حركة وسكنة وكلمة لوجه الله..

ابتسامة وبشاشة وفرح بطاعة الله..

استكثار من الذكر والدعاء وأنواع القربات واهتمامٌ بالسُّنن فضلًا عن الفرائض.

تسابقٌ وتزاحمٌ على حضور مجالس الذكر..

تبتدئ أيام الحج فيجد الحاج في نفسه أن أيامه طويلة على العودة لأهله ودياره ، فما أن ينقضي آخر أيام التشريق إلا والحزن يعتصر فؤاده على وداع تلك الأماكن التي عايش في جنباتها لحظات من ألذّ لحظات العمر والزمان ويبتهل أن يعيده الله إليها في قادم السنوات.

في الحج تظهر حقيقة المسلم ،وتتجلى صورته البهية المحاطة بمنظومة ذهبية من القيم والأخلاق والمبادئ التي نظَمَها الإسلام لآلئ ودُررًا في عِقْد حياته ليَظهر أمام الله وأمام نفسه والآخرين متّشحًا بأجمل حُلّة أخلاقية وإيمانية وقِيمية من بين سائر الأمم ، والحج إنما هو تأكيد لكل مسلم أن الإسلام وأخلاقه لا تختص بأيام الحج أو رمضان ، وإنما طوال العام.

فريضة الحج ، وشهر رمضان ، ويوم الجمعة والصلوات والعمرة وغيرها من مناسبات وعبادات المسلمين ليست إلا مواسم وأوقات يُجدد فيها المسلم علاقته بربه ، ويجاهد فيها نفسه على التخلص من كثير من الطباع والأخلاق المقيتة التي طالما تشرّبها من وسوسة وإغواء الشيطان.

ما أسعد حياة الحجاج..
فلنجعل كل حياتنا لله حجا..


*يا رب القبول نسأل ، والمغفرة نرجو ، والفوز بالفردوس هو غاية المنى*

مخطوطات ماجد الثوابي

 الخطاط / ماجد الثوابي الخطاط ماجد الثوابي ...